بقلم الدكتور:- إبراهيم حامد عبداللاه
أستاذ الأدب الألمانى…-عميد كلية الألسن
…رئيس قسم اللغة الألمانية كلية الآداب..
جامعة بنى سويف

في زمن يتصاعد فيه خطاب الكراهية وتتزايد مظاهر التهميش في قلب أوروبا، تأتي رواية “ثلاث رفيقات” للكاتبة الألمانية من أصل إيراني “شيدا بزيار” كصرخة أدبية مدوّية في وجه مجتمع لا يرحم من يراه “آخرًا”. الرواية، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الكتاب الألماني لعام 2021، لا تكتفي بتسجيل وقائع الظلم، بل تقدّم فعلًا أدبيًا مقاومًا، ينبض بالغضب والحب في آن واحد.
أدب الهامش في قلب المركز
في مواجهة مجتمع لا يعترف باختلافك، تكتب شيدا بزيار روايتها “ثلاث رفيقات” كبيان وجودي وسياسي، يتجاوز مجرد الحكي إلى مساءلة البنى الاجتماعية والثقافية التي تؤسس للتمييز والإقصاء. في هذه الرواية، التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة الكتاب الألماني لعام 2021، لا نجد قصة اندماج نمطية، ولا محاولة لتقديم بطلاتها بوصفهن قصص نجاح مهاجرة تسعى إلى التكيّف، بل أمامنا نص يعري تناقضات المجتمع الألماني من الداخل، ويعيد قراءة مفاهيم الهوية والانتماء والاختلاف، عبر عدسة نسوية غاضبة وصادقة.
هوية معلّقة وسؤال الانتماء
من خلال شخصية “كاسيه”، تشرع الكاتبة في حكاية صداقة طويلة بين ثلاث شابات – كاسيه، هاني، وسايا – نشأن في حي شعبي متعدد الثقافات، حملن معًا حلم الطفولة، وشهدن تحولات المراهقة، وواجهن سويًا أولى خيبات العالم. بعد سنوات من التباعد، يقرّرن الاجتماع من جديد، والهرب مؤقتًا من رتابة الواقع، ليقضين أيامًا يعيدن فيها وصل خيوط العلاقة التي كانت تشكّل لهن الوطن الوحيد الممكن. غير أن هذه الأيام التي كان يُفترض بها أن تكون ملاذًا دافئًا، تتحول شيئًا فشيئًا إلى مسرح لواقع أكثر قسوة. فالعنف هنا لا ينفجر فجأة، بل يتسلل بصمت، في نظرات الناس، في التعليقات العابرة، في طريقة تعامل الغرباء معهم، بل في الصمت المحيط بهم حين يكون الخطر على الأبواب.
اللغة كمرآة للغضب والنجاة
الرواية تسير ببطء محسوب، لا لأنها تفتقد للحبكة، بل لأن شيدا بزيار معنية أكثر بتفكيك الواقع بدقة جراح، تسائل الكلمات قبل الأفعال، وتفكك البنى الرمزية التي تنتج عنصرية مغلفة بالحداثة، وعنفا مؤسساتيا لا يُرى بسهولة. تسأل الرواية كيف يتحول الاسم إلى عبء؟ وكيف تصبح ملامح الوجه سببًا في شعور دائم بالتهديد؟ بل كيف يُطلب من الإنسان باستمرار أن يبرر وجوده، ويُثبت أنه يستحق مكانًا في وطن يفترض أنه ينتمي إليه؟ في ظل هذه الأسئلة، تبدو الصداقة بين النساء الثلاث أكثر من مجرد علاقة شخصية. إنها الشكل الوحيد المتبقي من الحماية، والركيزة النفسية التي تتيح لهن الاستمرار. الصداقة في هذه الرواية ليست هروبًا، بل اختيارًا سياسيًا في وجه التفكك. هي الفضاء الوحيد الذي لا يطلب إثباتات، ولا يصدر أحكامًا، ولا يعيد إنتاج الخطاب السائد.
لكن الصداقة نفسها ليست مثالية. تتعرض للاهتزاز، وتُختبر في مواقف صعبة، لا سيما حين تنفجر الأحداث في ليلة مأساوية تغيّر كل شيء. ومع ذلك، تستمر كخط دفاع أخير، وكفضاء يؤكد أن بوسع النساء، في وجه عالم يُفككهن باستمرار، أن يخلقن معنى جديدًا للانتماء.
الصداقة كفعل سياسي
الأسلوب السردي في الرواية لافت بقسوته وصدقه. إن شيدا بزيار تكتب بلغة مباشرة، لا تجميل فيها، ولا تزويق للواقع. في الوقت ذاته، تتمكن من المزج بين الألم والسخرية، بين الغضب والحنين، فتنتج نصًا أدبيًا لا يعظ، بل يشهد. نصًا يضع القارئ في مواجهة أسئلته الخاصة حول ما يعنيه أن يكون الآخر هو الجار، والزميل، والمواطن، دون أن يحصل على الاعتراف الكامل بذلك.
الرواية تقدم نقدًا صارمًا للمجتمع الألماني الحديث، بما فيه من نزعات إقصائية مغلفة بقيم التسامح والتعددية. تفكك شيدا بزيار بذكاء الخطاب الليبرالي الذي لا يرى في المهاجر إلا نموذجًا ناجحًا إذا ما التزم بالشروط المسبقة، أو حالة فشل إذا ما خرج عن السردية المقبولة. بين هذين النقيضين، لا يوجد مكان للتجارب المعقدة، ولا للغضب، ولا للوعي الطبقي أو السياسي المختلف. النساء في “ثلاث رفيقات” لا يقدّمن أنفسهن كضحايا، بل يرفضن هذا الدور، يواجهن، ويصنعن حيواتهن بمعزل عن نظرة المركز.
رؤية نسوية ما بعد الهجرة
تنتمي شيدا بزيار إلى جيل من الكاتبات والكتاب الذين يكتبون من قلب أوروبا، لكن من موقع الهامش، حيث تُعاد كتابة الهوية من دون خضوع لقوالب سابقة. ما يجعل روايتها متميزة ليس فقط الموضوع الذي تتناوله، بل الطريقة التي تفعل بها ذلك: بتصميم على فضح النفاق السياسي، وبصوت نسوي لا يهادن، يرفض الصمت ويحتفي بالصداقة كقيمة وجودية وسياسية في آن.
رواية تكتب الألم وتطالب بالاعتراف
إن رواية “ثلاث رفيقات” هي شهادة أدبية على تجربة جيل بأكمله، وعلى واقع يصر على دفن الاختلاف في طيات خطاب يتظاهر بالاحتواء. هي نص يصرخ من الداخل، لا ليُسمع، بل ليؤكد وجوده. في عالم تتآمر فيه أنظمة كاملة على سلبك صوتك، تكتب شيدا بزيار لتعيد هذا الصوت إلى مكانه. تكتب لكي لا يضيع الألم، ولا تتحول الحياة اليومية بكل عنفها الرمزي إلى مجرد واقع يُتقبل. إنها رواية تُقرأ لا لتُنسى، بل لتُفتح نقاشات جديدة، حول من يُسمح له أن يكون جزءًا من الجماعة، ومن يبقى عالقًا خارجها، مهما حاول الدخول.
إن “ثلاث رفيقات” تقدم أكثر من مجرد حكاية أدبية. إنها وثيقة روحية، وشهادة اجتماعية، وصرخة سياسية، ونص محمّل بأسئلة كبرى عن الوطن، واللغة، والانتماء، والعنف، والحب. وهي قبل كل شيء، تذكرة بأن الأدب لا يزال قادرًا على أن يكون ضميرًا، في زمن تتكاثر فيه أصوات الإنكار.
أقرأ التالي
4 يونيو، 2025
الإتحاد الدولي للسينما والفنون المسرحية بأمريكا ينعي وفاة الفنانة القديرة سميحة أيوب
4 يونيو، 2025
مستشار الديوان الملكي السعودي ينعى والد زوجة الوكيل الدائم لوزارة الأوقاف
3 يونيو، 2025
محمد أبو السعود الرئيس التنفيذي للبنك الزراعي المصري ينضم لعضوية مجلس إدارة اتحاد بنوك مصر
3 يونيو، 2025
نائب وزير الإسكان يُشارك بورشة عمل بمصنع المحركات بعنوان”رقمنة وتصنيع قطع الغيار بأحدث تقنيات الطباعة”
زر الذهاب إلى الأعلى