صلاة الفينيق في معبدٍ بلا سقف – أثر الأسطورة المصرية في رؤى “ريلكه” الشعرية

بقلم الدكتور:- إبراهيم حامد عبداللاه
أستاذ الأدب الألمانى…-عميد كلية الألسن
…رئيس قسم اللغة الألمانية كلية الآداب..
جامعة بنى سويف

*ريلكه والقصيدة كطقس كوني
في زوايا الشعر الحديث، حيث تتقاطع الرؤى وتتلاشى الحدود بين الزمان والمكان، وبين الظاهر والخفي، يبرز اسم راينر ماريا ريلكه بوصفه نبيًّا شعريًّا يتكلم من داخل صمتٍ كونيٍّ كثيف. لا يكتب ريلكه من أجل البلاغة أو الفصاحة، بل يكتب ليوقظ العصب الغامض في الإنسان، ذاك الذي يربطنا بالمطلق، بالحضور الغيبي، وبما لا يُقال. وبينما تبدو قصائده محكمة البناء، تفيض على القارئ بشعورٍ من الانجراف في طقس قديم، كما لو كانت الكلمات تُتلى من على منبر معبد غابر. ليس غريبًا إذن أن تعود جذور هذا الحسّ الطقسي في شعره إلى منابع حضارية عتيقة، وفي مقدمتها مصر القديمة.
مصر بوصفها رؤية داخلية لا موقعًا جغرافيًّا
لم تكن مصر في تجربة ريلكه مجرد خلفية ثقافية، بل رمزًا داخليًّا كثيفًا، فالموت في عينيه لم يكن خاتمة، بل عبورًا، والمكان لم يكن موقعًا جغرافيًّا بل نقطة تماس بين ما نعرفه وما لا نستطيع معرفته. وهكذا تصبح القصيدة لدى ريلكه مرآةً لهذا الفهم: ليست سردًا لما هو معروف، بل إنصاتًا لما لا يُنطق به، استدعاءً لما هو غائب، ومخاضًا لبعثٍ داخليّ يتكرر مع كل بيت شعري. الأسطورة المصرية التي تضع الموت في مركز التجربة وتحوّله إلى بوابة، كانت بالنسبة إليه أكثر من أسطورة، كانت طريقة في الرؤية، في العيش، في تحمّل الغياب، وفي استقبال الحياة بصفتها تدفقًا غير منتهٍ.
أورفيوس بأقنعة أوزيريس
إن ريلكه، وهو يستحضر شخصية أورفيوس، لا يستعير فقط رمز الشاعر الإغريقي المغني الذي ينزل إلى العالم السفلي، بل يعيد تشكيله ليكون أقرب إلى ما يشبه أوزيريس المصري: الكائن الذي قُطّع ثم أُعيد بعثه، لا بالجسد وحده، بل بالصوت. يصبح أورفيوس في أناشيد ريلكه ممثلًا عن الفعل الشعريّ الذي يعيد بناء الكون عبر الإنشاد، وكل مقطع من “أناشيد أورفيوس” هو طقس، ترديد لصوت الخلق الأول، استدعاء لتوازن كونيّ تمزّق. وكما أن إيزيس جمعت أشلاء أوزيريس لتعيد له الحياة، فإن القصيدة تجمع أجزاء الذات المتناثرة، التائهة، لتعيد لها اتصالها بالمطلق.
القصيدة بوصفها بعثًا دائمًا
لم يكن ريلكه ينظر إلى الشعر كأداة للتعبير، بل كوسيلة للعبور. لذلك فإن حضور مصر في شعره لا يظهر في شكل مباشر أو إشارات واضحة، بل يتسلل كضوء غامض، كحالة روحية تشبه تلك التي يتأمل فيها كاهنٌ قديمٌ أفعى مقدّسة أو يراقب شروق الشمس من بين أعمدة الكرنك. وحتى حين يتحدث عن الحيوان، كما في قصيدته الشهيرة “النمر”، فهو لا يراه ككائن طبيعي، بل كمبعوث صامت، حاملٍ لنظرة ماورائية، مخلوقٍ يقيم في عالمٍ لم نعد نعرفه. وهذا قريب جدًّا من الفهم المصري القديم الذي رأى في الحيوان تمظهرًا إلهيًّا لا مجرّد كائن. القطّ، الصقر، التمساح، لم تكن حيوانات بل آلهة تمشي على الأرض، تصغي ولا تتكلم، تنظر ولا تُشرح.
اللغة كتمثال مقدّس
هذا الحسّ بالرمز الذي يعيش في الأشياء، بالحضور الذي لا يحتاج إلى كلام، يتكرر عند ريلكه حين يتحدث عن اللغة ذاتها. كان يعتقد أن الكلمة الحقيقية لا تُنطق، وأن القصيدة الجيدة لا تُكتب بل تُستدعى. في مصر القديمة كانت الكتابة تُنقش، لا فقط لتُقرأ، بل لتتجاوز الزمن، لتمنح الخلود. وكما كان الكاتب المصري كاهنًا لا مجرّد ناسخ، فإن ريلكه رأى نفسه كاهنًا شعريًّا، لا يمارس الشعر من الخارج بل يغوص فيه من الداخل، يُنصت إلى الأصوات التي تأتي من وراء الحُجب، ويترجمها لا كما هي، بل كما يمكن أن تُحتمل.
الفينيق يولد من رماده
القصيدة، في عالم ريلكه، هي طائر فينيق، يحترق في كل سطرٍ ليُولد من رماده في السطر التالي. ليست هناك لحظة واحدة مستقرّة. كل لحظة تتآكل لتلد لحظة أخرى، وكل صورة تنقض نفسها لتعيد تشكيل شكلٍ جديد. هذا بالضبط ما فعلته الأسطورة المصرية عبر القرون: رفضت الاستقرار، احتفت بالدورة، بالتحوّل، بالخلود الذي لا يعني البقاء بل التجدّد الدائم. لذلك لم يكن غريبًا أن تستحوذ هذه الروح على خيال ريلكه. إنها روحٌ تشبهه، تعيش في العالم ولكنها ليست منه، تنتمي إلى الزمن لكنها تتهرّب من مقاييسه، تستدعي اللغة لكنها تعرف محدوديتها.
أورفيوس ينشد من بوابة الغياب
ريلكه، إذن، ليس فقط شاعر الألم أو الجمال، كما يُصنَّف أحيانًا. إنه شاعر المعبد الداخلي، شاعر البوابة، شاعر الغياب الذي لا يُحتمل إلا إذا غنّينا له. ومصر لم تكن له محطة تاريخية، بل مرآة رمزية رأى فيها ملامح ما لم يكن قادرًا على تسميته. في معابدها الصامتة، وفي كتاب الموتى الذي هو في الحقيقة كتاب للحياة، وجد ما يفتقده في الكلمة الأوروبية: المعنى الغامض، الملتبس، الحامل في داخله صمت النجوم.
القصيدة بوصفها سردابًا سريًّا
قصائده ليست أوصافًا بل تحولات. ليست تفسيرات بل حالات. ونحن، حين نقرأه، لا نقرأه كما نقرأ قصائد الشعراء الآخرين، بل نفتح كتابه كما لو أننا نفتح بابًا في حائط المعبد، لنصغي إلى الصوت الذي لا يأتي من الحناجر، بل من الأبدية نفسها.
ريلكه، بهذا المعنى، لم يكتب قصائد، بل أعاد بعث الأسطورة. ومصر، كما فهمها، لم تكن وطنًا جغرافيًّا، بل وطنًا روحيًّا، مقامًا مقدسًا في داخل اللغة. ومن هنا فإن من يقرأ ريلكه قراءة عادية، كمن ينظر إلى واجهة الهرم دون أن يدخل حجرته السرية. وحدهم الذين يصغون إلى الصمت بين السطور، الذين يسمعون الأغنية في قلب الظل، يعرفون أن أورفيوس في أناشيده لم يكن يغني للحب فقط، بل كان يغني ليولد من جديد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى