استلهام صلاح عبد الصبور للتراث الصوفي في مسرحية “الحلاج”: أثر الحسين بن منصور الحلاج وفريد الدين العطار في تشكيل البنية الشعرية والرمزية

بقلم الدكتور:- إبراهيم حامد عبداللاه
أستاذ الأدب الألمانى…-عميد كلية الألسن
…رئيس قسم اللغة الألمانية كلية الآداب..
جامعة بنى سويف

– يعد صلاح عبد الصبور (1931 – 1981) من أبرز رموز الشعر العربي الحديث، ومن رواد حركة الشعر الحر التي غيّرت من شكل القصيدة العربية ومضامينها، حيث سعى من خلال تجربته الشعرية والمسرحية إلى المزج بين الحس الفلسفي والتجربة الوجدانية، فكان من أوائل من منحوا القصيدة بعدًا صوفيًا ووجوديًا معاصرًا. وتشكل مسرحيته الشعرية “الحلاج” (1965) إحدى أبرز علامات المسرح الشعري العربي في القرن العشرين، وقد جسدت فيها رؤيته للتراث لا بوصفه ماضيًا جامدًا يُستعاد ويُمجّد، بل باعتباره عنصرًا حيًا وفعّالًا يحمل طاقات رمزية قادرة على مساءلة الحاضر وكشف أزماته.
في هذه المسرحية، استلهم عبد الصبور شخصية الحسين بن منصور الحلاج (858م – 922م)، المتصوف الشهير الذي أعدم صلبًا في بغداد بتهمة الزندقة، بسبب أقواله الجريئة وتجربته الروحية العميقة، وعلى رأسها مقولته “أنا الحق” التي أثارت جدلًا واسعًا، فاعتُبر من قِبل البعض شهيدًا للعشق الإلهي، ومن قِبل آخرين ثائرًا على السلطة الدينية والسياسية. مثّل الحلاج بالنسبة لعبد الصبور رمزًا لإنسان خرج عن حدود المألوف دفاعًا عن صدق تجربته الروحية والفكرية، ودفع حياته ثمنًا لموقفه.
كما تأثر عبد الصبور بأشعار فريد الدين العطار، الشاعر والمتصوف الفارسي (1145–1221م)، الذي عاش في القرن الثاني عشر، وترك إرثًا شعريًا غنيًا يمزج بين الرمز والأسطورة والسفر الروحي، خاصة في عمله الشهير “منطق الطير”، حيث تظهر بوضوح النزعة إلى التجريد والتجاوز، والبحث عن المطلق من خلال الرموز والأسئلة الكونية. وقد انعكست هذه التأثيرات على بنية النص المسرحي عند عبد الصبور، ليس فقط على مستوى اللغة والصورة الشعرية، بل أيضًا في البنية الرمزية والشخصيات التي تتحرك داخل فضاء يتجاوز الزمان والمكان.
في هذا المقال نناقش رحلة استلهام التراث الصوفي في مسرحية “الحلاج”، من خلال تتبع حضور أشعار الحلاج والعطار في نسيج النص، وتحليل التوظيف الرمزي واللغوي والدرامي لهذه العناصر، للكشف عن الكيفية التي أعاد بها عبد الصبور بناء التراث وتفعيله بوصفه أداة فنية وفكرية لمساءلة الحاضر، بل صوتًا احتجاجيًا، بل كاستشراف لما هو قادم.
الحلاج كرمز في التراث الصوفي
يُعد الحسين بن منصور الحلاج من أبرز أعلام التصوف الإسلامي، وقد شكّلت تجربته مصدر إلهام جوهري لصلاح عبد الصبور في بناء رؤيته الفنية والفكرية لشخصية “الحلاج” في مسرحيته الشعرية. لم يكن الحلاج بالنسبة لعبد الصبور مجرد رمز ديني أو شهيد صوفي، بل إنسانًا خرج عن المألوف ووقف في مواجهة النفاق السياسي والديني والاجتماعي، مدفوعًا بيقين داخلي عميق، ورغبة صادقة في تجاوز حدود الظاهر نحو الحقيقة. لقد مثّل الحلاج ـ في تجربة عبد الصبور ـ ذلك الإنسان الذي يدفع حياته ثمنًا لكلمة الحق في زمن تختلط فيه السلطة بالدين، وتتحول فيه العقيدة إلى أداة قمع. وتعبّر أشعاره عن وعي وجودي عميق، حيث تتقاطع تجربة العشق الإلهي مع الألم الإنساني، مما يجعل من صوته نداءً دائمًا للصدق والتمرد الروحي.
أشعار الحلاج، المليئة بالتوترات الروحية والتجليات الصوفية، مثل:
“قتلوك ظلمًا يا شهيد العشق
وما عرفوا أن القتيل هو الدليل”
أو:
“أنا من أهوى ومن أهوى أنا
نحن روحان حللنا بدنا”
تكشف عن ذوبان الذات في المحبوب الإلهي، وتجعل من الشهادة نتيجة طبيعية لمسيرة العشق الخالص. عبد الصبور لم يتعامل مع هذه النصوص بوصفها موروثًا مقدسًا فقط، بل بصفته شاعرًا حداثيًا يعيد إنتاجها في سياق جديد، ليحملها دلالات اجتماعية وسياسية معاصرة. ولذلك، فإن شخصية الحلاج في المسرحية ليست فقط صوتًا صوفيًا بل صوتًا احتجاجيًا، يتحدى السائد من منطلق روحي حر.
أما فريد الدين العطار، فقد شكّل بدوره ركيزة أساسية في البناء الرمزي لمسرحية “الحلاج”. لم يستقِ عبد الصبور من العطار صورًا جاهزة أو رموزًا محفوظة، بل استوعب البنية التخيلية التي تأسس عليها شعر العطار، وخاصة في عمله الشهير “منطق الطير”. هذا العمل الذي يحكي رحلة الطيور في بحثها عن السيمرج بوصفه تجسدًا للحقيقة أو الله، قدّم لعبد الصبور نموذجًا سرديًا ورمزيًا لرحلة الذات نحو المطلق، رحلة محفوفة بالشوق والتجرد والمكابدة، وهي جوهر ما يخوضه الحلاج في المسرحية.
يقول العطار في إحدى مقاطعه الرمزية:
“من لا يرى في الشوك زهرة
لن يرى في قلبه نورًا”
وهذه الرؤية في قلب المفارقة الجمالية الصوفية، هي التي تسكن تجربة الحلاج في نص عبد الصبور. فالشوك يتحوّل إلى بوابة للكشف، والألم يتحول إلى نور، والموت يصبح لحظة عبور. هذا التماثل الرمزي بين التجربتين (رحلة الطيور ورحلة الحلاج) شكّل خلفية تخييلية عميقة للكاتب، مما جعله يربط بين التجربة الصوفية والتجربة الإنسانية الحديثة في آن.
في بنية المسرحية نفسها، تتجلى هذه الاستلهامات على مستوى اللغة والحوار. فعبد الصبور يجعل من الحوار المسرحي مرآة للشعر الصوفي: تتكرر فيه الأسئلة الكبرى، تمتزج فيه اللغة الحسية بالتجريد، ويختلط الإيقاع بالحكمة. في أحد المشاهد يقول الحلاج:
“ما كنت أظن أن العدالة
تقتل عشاقها
وتغمس سيفًا في دم من قال لا”
هذه الجملة، رغم بساطتها الشكلية، تكثف موقفًا وجوديًا ومعرفيًا حادًا: العدل يقتل من ينادي بالحق، والعشق يُجزى بالموت. تشبه هذه المفارقة مأزق العاشق في التجربة الصوفية، لكنها هنا تأخذ بعدًا اجتماعيًا معاصرًا، وكأن عبد الصبور يجعل من العشق الإلهي رمزًا لكل من يطلب الحرية والصدق والمعرفة.
وتتحول عبارة “أنا الحق”، التي كانت جوهر الصدمة في تجربة الحلاج التاريخية، إلى موقف درامي لدى عبد الصبور. فالحلاج في المسرحية لا ينطق بها كدلالة دينية فقط، بل بوصفها إعلانًا للتمرد على التزييف، ومطالبة بالعدالة، وتأكيدًا لحق الذات في البوح والاختيار. يصرّح الحلاج في لحظة المواجهة:
“أنا ما جئت لأعلو فوق الناس
بل جئت لأنزع عنهم الأقنعة”
هذا التصريح هو قلب المأساة، ومفتاح المسرحية كلها. فالمواجهة ليست بين متصوف وسلطة دينية، بل بين ذات حرة ونظام اجتماعي يقمع الحرية باسم الشرعية، ويغلف الظلم بغطاء المقدس زمن استلهام فكرة المسرحية.
أما على مستوى البنية الرمزية الكاملة، فإن رحلة الحلاج في المسرحية، من لحظة البصيرة إلى لحظة الشهادة، تقابلها بنية الرحلة في “منطق الطير” عند العطار: الطيور تعبر الوديان السبعة حتى تصل إلى السيمرج، لكنها تكتشف أن الحقيقة كامنة في داخلها منذ البداية. كذلك الحلاج، يخوض رحلة وجودية عميقة، تتوّجها الشهادة، لكنه يُدرك ـ وهو على حافة الموت ـ أن اليقين لا يُدرك إلا بالحرق الكامل للذات:
“لا طريق إلى الله
إلا بخطوة من نار
لا يُدرك اليقين
إلا حين يحترق الجسد”
هذا التداخل بين الفناء والصعود، بين المحنة والكشف، يعبّر عن رؤية عبد الصبور العميقة لفعل الاستشهاد بوصفه ذروة للصدق، لا غاية للبطولة.
ومن هنا تنبع أهمية التمييز بين “الاستلهام” و”الاستحضار”. عبد الصبور لم ينقل النصوص الصوفية كما هي، ولم يتعامل معها كوثائق جاهزة، بل استلهم منها بنية فكرية وجمالية، تنسجم مع مأزق الإنسان العربي الحديث. فقد جعل من التراث طاقة رمزية، تسائل الحاضر، وتُعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والمقدس، بين الحرية والسلطة، وبين المعرفة والخوف، وبهذا المعنى، فإن “الحلاج” ليست فقط مسرحية عن صوفي مات شهيدًا، بل هي تأمل درامي وشعري في معنى الكلمة، ومعنى أن يكون الإنسان صادقًا في قول الحق، ولو على حساب حياته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى