بهجت العبيدي يكتب: ما بين إلغاء الليل وجعل النهار سرمديا … وإلغاء العقل

بينما يجرؤ البعض على التفكير في إلغاء الليل، لا يزال البعض الآخر يخاف من فكرة النور ذاته.” في تقرير مثير نشرته جريدة المصري اليوم نقلا عن موقع The Conversation، عرض الكاتب محمود العزبة مشروعا غير مسبوق لشركة أمريكية ناشئة تُدعى Reflect Orbital، تخطّط لإطلاق نحو أربعة آلاف مرآة فضائية في مدار منخفض حول الأرض، وذلك لكي تعكس ضوء الشمس إلى الكوكب في ساعات الليل لإلغائه ليصبح النهار سرمديا. الفكرة المعلَنة هي توسيع النهار لخدمة الزراعة والإنتاج وتوفير الطاقة، ويذهب العديد من العلماء إلى أن هذا المشروع قد يُحدث خللا بيئيا وفلكيا جسيما، وأنه محاولة لتغيير النَّفَس الطبيعي للكون نفسه. ولذلك فقد أثار هذا الإعلان جدلا فكريا ووجوديا واسعا في الأوساط العلمية والثقافية الغربية حيث طرح العديد من الأسئلة: هل يحقّ للإنسان أن يُعيد تشكيل الليل والنهار؟ هل التقدّم العلمي بلا حدود؟ أم أن هناك خطوطا حمراء في علاقة الإنسان بالطبيعة يجب ألا تُتجاوز؟ هذه الأسئلة وهذا الحوار بين العلماء والمفكرين، على عمقه وخطورته، يكشف حيوية الفكر في المجتمعات الحيّة؛ تلك التي ترى في العلم مغامرة مستمرة، وفي السؤال فعلا مقدسا. هناك، في هذه المجتمعات الخية، لا يُخاف من الخيال، ولا تُخمد نيران الجدل، ولا يُخشى من الأسئلة، لأن الحركة الفكرية تُعدّ دليل الحياة ذاته. وفي المقابل، حين ننظر إلى مجتمعاتنا العربية، نجد المفارقة صارخة ومؤلمة. بينما ينشغل العالم بتبديل موازين الكون، ما زلنا نحن نناقش موازين النصوص؛ بينما يتقدّم الآخرون نحو المستقبل بخطى علمية تقترب من المستحيل، نبحث نحن عن فتوى تبرّر خطوة إلى الأمام. لقد تحوّل العقل الجمعي لدينا إلى أسير الماضي، لا يستطيع أن يخطو دون أن يتكئ على تراثٍ يقدّسه حتى الجمود. وهكذا، بينما يسعى البعض إلى إلغاء الليل المادي، تواصل منطقتنا إلغاء النهار العقلي. إن الفارق بين من يُعيد تشكيل الكون – كما هو الحال في هذه الفكرة العجيبة في إلغاء الليل، ومن يكرّر الماضي ليس في الأدوات ولا في الثروة، بل في الجرأة على التفكير. هناك عقل يسأل ويجرب ويخطئ ويتعلم، وهنا عقل يخاف من السؤال، ويخشى من الخطأ أكثر مما يخشى من الجهل. قد يثبتْ لاحقا أن مشروع “إلغاء الليل” خطر على التوازن الكوني، وقد يُجهض قبل أن يُنفَّذ، لكن يكفي أنه فتح الباب أمام الأسئلة الكبرى: ما حدود العلم؟ وما حدود الإنسان؟ وهل يملك أن يتصرّف في ضوء الكواكب كما يتصرّف في بيته؟ هذه الأسئلة وحدها دليل على أن الغرب ما زال حيًّا، وأن حضارته، رغم عيوبها، لم تفقد قدرتها على الحوار مع الوجود. أما نحن، فقد اكتفينا بدور المتفرج، نتابع الآخرين وهم يُعيدون صياغة العالم، بينما نحتمي بماضٍ لم يعد قادرا على أن يُنير مستقبلا. “إن أخطر ما يمكن أن يصيب أمة ليس أن تفقد ثرواتها، بل أن تفقد قدرتها على التساؤل.”





