الرمل والصمت: قراءة في رواية المتشرد ل “ماركوس أستيرماير”

بقلم الدكتور:- إبراهيم حامد عبداللاه
أستاذ الأدب الألمانى…-عميد كلية الألسن
…رئيس قسم اللغة الألمانية كلية الآداب..
جامعة بنى سويف

 


✍️عندما يصبح الجسد مقياسًا للعالم
في عالمٍ تُقدّس فيه التكنولوجيا والسرعة والتنبؤ الدقيق، تظهر رواية المتشرد لماركوس أستيرماير، الصادرة عام 2024، كنقيضٍ صارخٍ، كصمتٍ مدوٍّ، كأغنيةٍ مكتوبة بالدموع والرمل. إنها ليست مجرد قصة رجلٍ بلا مأوى، بل ملحمةٌ شعرية عن فقدان الهوية وتحول الجسد إلى مقياسٍ وحيدٍ للوجود في عالمٍ فقد معناه.
إن ماركوس أستيرماير كاتب ومخرج مسرحي ألماني، وُلد في ميونخ عام 1972، وعُرف بأسلوبه الذي يجمع بين الشعر والتجريب، حيث يدمج اللغة بالمشهد المسرحي ليخلق عوالمَ من الصمت والحركة. عُرضت أعماله في مسارح أوروبية عدة، وغالبًا ما تتناول موضوعات الاغتراب الإنساني والهوية والهشاشة الجسدية. وتُعد رواية المتشرد عمله الروائي الأبرز حتى الآن، إذ ينقل فيها لغته المسرحية إلى النص السردي بلغةٍ متوترةٍ ومكثفة.
فبطل الرواية، كارل، ليس بطلاً بالمعنى التقليدي. لا يقاتل، ولا يُنقذ، ولا يُصلح. إنه يَحتمل. ويَحتمل بجسده المنهك والمثخن بالجروح والمغطى بندبةٍ تشبه خطًا مقطوعًا في نسيجٍ متشابكٍ من الذاكرة والمعاناة. هذه الندبة، التي تمتد من الشفة إلى الجبهة، ليست مجرد أثرٍ لعنفٍ عابر، بل علامةٌ على تحوّلٍ داخلي عميق. لقد أصبح كارل مقياسًا لقياس انهيار العالم وتشظي الزمن واستسلام الإنسانية. إنها ندبةٌ على الوجه، لكنها مقياسٌ للروح. “الآن، منذ شهرين، السماء فوق المدينة زرقاء بلا نهاية”، يكتب أستيرماير، وكأنه يعلن نهاية العواصف، لكنه في الحقيقة يعلن نهاية المعنى. ففي عالمٍ تستبدل فيه الأحاسيس بالبيانات، يصبح كارل بندبته المنذرة بالتغير منفيًا من الحداثة، لكنه في الوقت نفسه مخلّصًا محتملًا.
أستيرماير لا يكتب عن الشارع كمكانٍ جغرافي، بل كحالةٍ وجودية. فكارل لا يعيش في الشارع؛ إنه هو الشارع. تمشي خطواته في الأزقة وتُسمع أصداؤها في المقاهي ومحطات القطار والملاجئ. كل تفصيلة، كل رائحة، كل صوت، كل ارتعاشة في جسده، تتحول إلى نصٍّ مكتوبٍ بالجسد نفسه. عندما يشرب كارل من علبة مشروبه، لا يشرب فقط؛ إنه يعيد تشكيل الزمن، يثبت وجوده. عندما يمسح فمه بذراعه، لا يمسح فقط؛ إنه يمحو جزءًا من العالم الذي رفضه. عندما يلمس ندبته، لا يلمس جلده، بل مركز الألم، المكان الذي توقف فيه الزمن، حيث الصرخة القديمة “ابقَ واقفًا!” لم تُنسَ، بل تحولت إلى ندبة، إلى رمالٍ تغطي الجسد والروح والذاكرة.
إن أعمق التناقضات في الرواية هو تحوّل الرمل من عنصرٍ طبيعيٍ إلى رمزٍ وجوديٍ. في مشهدٍ مؤثر، يتذكر كارل طفولته عندما كان يُعلّم طلابه عن الشمس وملايين الدرجات وملايين السنين والحركة العشوائية. كان يومها يبسط المعقد، يشرح المفهوم الغامض بلغةٍ مفهومة. لكنه الآن لم يعد قادرًا على تبسيط أي شيء. فالعالم لم يعد يُفهم بالعلم أو المنطق، بل يُفهم فقط بالألم، بالرمل الذي يغطي الجسد، بالصمت الذي يبتلع كل شيء. يقول أستيرماير في إحدى فقراته: “الرمل هو ما يُنظّف، ما يُخفي، ما يُمحو، وما يُبقي”. إنه ليس ترابًا، بل نسيانٌ وصمتٌ واستسلامٌ هادئ.
ما يجعل الرواية فريدة هو هذا التناقض بين اللغة الدقيقة والتشويه الجسدي. أستيرماير يكتب بجمالٍ شعريٍّ متقن، لكنه يصوّر أدق تفاصيل القبح: رائحة العرق، أصوات التقيؤ، الجروح، بقع البول، تشققات الجلد. هذا التناقض لا يخلق نفورًا، بل صدمةً أخلاقيةً تدفع القارئ إلى النظر، لا إلى المأساة كفكرة، بل إلى الإنسان كجسدٍ حيٍّ ما زال يقاوم. لا تقرأ هنا عن البؤس، بل عن إنسانٍ يواصل التنفس والمشي والبحث عن الخبز، حتى بعد أن أصبح جسده مقياسًا للفشل.
ومن هنا تأتي قوة الرواية الكبرى: إنها لا تُدين المجتمع، ولا تطرح حكاية “الضحايا”، بل تكتب عن البقاء. كارل لا يريد إنقاذًا ولا إعادة تأهيل، ولا يسعى إلى أن يُعاد دمجه في المجتمع. يريد فقط أن يشعر: بالهواء، بالبرد، بالحر، بندبته التي تنبئه بالغيوم، بالرمل الذي يغطيه، بصوت علبة الشراب التي تُفتح، بالصمت الذي يحيط به. يريد أن يكون موجودًا، حتى لو كان وجوده محاطًا بالرمل والصمت.
في مشهدٍ مؤلمٍ وجميل، يلمس كارل ندبته ويتذكر أنه “كان يحلم يومًا بالعمل في بنك”، فيضحك في نفسه. هذه الذكرى الصغيرة، الشظية التي تنبثق من زمنٍ آخر، هي نبضة حياةٍ في جسدٍ متعب. إنها تذكّرنا بأن كارل، قبل أن يصبح متشردًا، كان إنسانًا: معلمًا، أبًا، زوجًا، مواطنًا. لقد خسر كل شيء، لكنه لم يخسر ذاكرته. وهذه الذاكرة، في عالمٍ يسعى إلى النسيان، هي شكل من أشكال المقاومة.
إن رواية المتشرد ليست رواية عن الفقر، بل عن الذاكرة، عن الصمت، عن الجسد الذي يصبح آخر مقياسٍ للحقيقة حين تنهار كل المقاييس الأخرى. إنها تذكّرنا بأن الإنسان لا يُقاس بماله أو مكانته، بل بقدرته على التحمل والاستمرار والتذكر، حتى حين يتحول جسده إلى صحراء من الرمل.
في الرواية لا نجد خلاصًا ولا نصرًا ولا وعدًا. هناك فقط كارل، وندبته، ورمله، وصوته الخافت، وصمت العالم من حوله. لكن في هذا الصمت والرمل يكمن ما هو أعمق من كل الانتصارات: كرامة لا تُقاس، ووجود لا يُستهان به. إن المتشرد ليست مجرد رواية، بل نصٌّ إنسانيٌّ لعصرٍ متعب، يُكتب بالرمل والعرق والدم، ويُقرأ بعيونٍ مفتوحةٍ على الألم. في عالمٍ يُقدّس التكنولوجيا، يذكّرنا أستيرماير بأن أعمق فهمٍ للوجود قد يكون في الصمت الذي يصدره جسدٌ جريحٌ، وهو يلمس ندبته ويتذكر أنه كان يومًا إنسانًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى