بقلم :- بروف.د.ابشر حسن

عندما التحقتُ بكلية الطب بجامعة الخرطوم، لم أدخل مجرد مؤسسة تعليمية، بل دخلتُ وطنًا مصغّرًا اسمه كلية الطب. هناك، للمرة الأولى، عشتُ السودان بلا أسئلة جارحة، ولا تصنيفات، ولا حواجز خفيّة. لم أعرف قبيلة زميلي، ولم يسألني أحد: من هى قبيلتك؟ كنا طلابًا فقط، نحمل أحلامًا متشابهة، ونسير في الاتجاه نفسه، كأن قدرًا واحدًا جمعنا في ذلك المكان.
كانت داخلية الطب بحقٍّ سودانًا مصغّرًا. طلابٌ من مختلف المناطق واللهجات، يتحرّكون كجسدٍ واحد، وكأن السودان قرّر أن يختبر وحدته داخل تلك الجدران. في الممرات الطويلة، وفي غرف النوم المشتركة، وفي طوابير الطعام، تعلّمنا أن ما يجمع الناس أكبر بكثير مما يفرّقهم.
كانت أيامنا تبدأ باكرًا؛ نصحو مع الصباح، ونتجه إلى الكلية لحضور محاضرات الصباح التي تنتهي عند التاسعة. ثم نعود إلى الداخلية لتناول الإفطار؛ إفطار بسيط في شكله، لكن دفئه كان في الجلسة، وفي الضحكات المتعبة، وفي الإحساس العميق بأننا لسنا وحدنا في هذا الطريق الشاق.
بعدها نعود مرة أخرى إلى الكلية، حيث نتوزّع للمرور والتدريس السريري على المرضى. ركبتُ البص إلى سوبا، وإلى الخرطوم، وإلى بحري، وإلى أم درمان. كنتُ أحمل سماعتي في جيبي، وفي رأسي قلق البدايات، ذلك القلق الجميل الذي يصاحب أول احتكاك حقيقي بالحياة والمرض والمسؤولية.
كنتُ أفرح أكثر حين يُكتب لي العمل في مستشفى الخرطوم. هناك، كان الوقت يتّسع للجلوس في كافتريا الصيدلة أو الطب، ولحضور أركان النقاش التي كانت علنية في ظاهرها، وسرّية في روحها. شهدتُ هناك نقاشات حادّة، حيّة، صادقة، بين أهل اليسار وأهل اليمين، بكل مدارسهم موتفرّعاتهم، دون خوف ولا مجاملة. تعلّمتُ يومها أن الاختلاف يمكن أن يكون علامة صحة، لا تهمة، ومصدر ثراء، لا سبب خصومة.
بعد نهاية الراوند نعود إلى الداخلية للغداء. وكان يوم الأربعاء هو يوم الـ Special؛ وجبة ثرية باللحوم، والسلطات، والفاصوليا، وتحلية من فواكه وكريز وجيلي وما تيسّر. يومٌ له طعم مختلف، ينتظره الجميع كأنه عيد صغير في منتصف الأسبوع، يخفّف عنّا ثقل الأيام.
ثم نأخذ قيلولة قصيرة، ننهض بعدها وقد عاد الدم إلى العروق. نلبس ونتجه إلى الكلية، حيث تبدأ المذاكرة في قاعة أنيس. هناك تعلّمتُ الصمت، واحترام السؤال، والجلوس طويلًا مع الكتاب دون استعجال. كان صمت القاعة مهيبًا، وكانت الأوراق والكتب تشهد على محاولاتنا المتكرّرة لفهم العالم من بوابة العلم.
وفي بعض الأمسيات، كانت سينما النيل الأزرق تنادينا. نأخذ “زَوْقَة” سريعة ونمضي. شاهدتُ هناك أفلامًا تركت أثرًا عميقًا في وعيي: معركة الجسر، صائد الغزلان، حمّى ليلة السبت، مهوغني، وطار فوق عش المجانين. كنا نخرج من السينما مختلفين قليلًا عمّا دخلنا، أكثر حساسية تجاه الإنسان، وأكثر وعيًا بتعقيداته. وغالبًا ما عدنا إلى الداخلية كُدارى، نمشي والليل معنا، نفكّر أكثر مما نتحدث.
لم تكن الكلية دراسة فقط؛ كانت فضاءً سياسيًا وثقافيًا حيًّا. عشتُ زمن الجمعيات الطلابية: الموسيقى، والمسرح، والدور الخيرية، والصحة النفسية، وجمعية الثقافة. شهدتُ ليالي سياسية يحييها عتاولة الفكر والسياسة، وليالي هواة الاستماع، والحفلات الغنائية، والندوات الفنية، والعروض المسرحية. عشتُ أفراح أسبوع الكلية بمعارضه وندواته وكرنفالاته الختامية، وشاركتُ في يوم الأسرة الذي كان يجمع أساتذة الكلية وطلابها في لحظة إنسانية نادرة، تنتهي غالبًا باحتفال غنائي بسيط وصادق.
ورغم هذا الزخم الاجتماعي والسياسي والفني، كان الجو الأكاديمي صارمًا لا يعرف المجاملة. كانت الامتحانات صعبة، وتتطلّب استعدادًا كثيفًا وانضباطًا قاسيًا. ومن خلال القوافل الطبية في إجازة نصف السنة والإجازة الكبرى، جُبتُ معظم مدن السودان. هناك تعرّفتُ على ثقافات مختلفة، وبيئات متنوّعة، واكتشفتُ أن الوطن أوسع وأعمق بكثير مما كنا نراه من نوافذ القاعات. تلك القوافل صقلت التجربة، ووسّعت المدارك، وربطت العلم بالناس.
بعد ستّ سنوات من الاجتهاد والمثابرة، دفعتنا الجامعة إلى الحياة العملية. خرجنا نحمل علمنا، ونحمل معه مسؤولية الناس. انتشرنا في مختلف ربوع البلاد نُضمّد الجراح، ونُسند الضعيف، وننشر الوعي بلا منٍّ ولا ضجيج. هكذا كانت جامعة الخرطوم: ليست مجرد مؤسسة تعليمية، بل فصيلًا حيًّا من فصائل المجتمع، ما فتئت تقدّم أبناءها قربانًا لرفعة شأن هذه البلاد.
لكن المؤلم حقًّا أن ذلك السودان الذي عرفناه في كلية الطب لم يصمد طويلًا خارجها. خرجنا إلى الحياة فوجدنا الوطن أقل رحمة من القاعات، وأقسى من الامتحانات، وأكثر فوضى من أركان النقاش. تفرّقنا كما لم نتفرّق من قبل؛ لا لأننا اختلفنا، بل لأن البلاد ضاقت بأحلامنا.
هاجر بعضنا، وانكسر بعضنا، وبقي بعضنا يحرس ما تبقّى من المعنى في مستشفى بعيد، أو قرية منسية، أو منفى لا يشبه الذاكرة. كلما عدتُ بذاكرتي إلى كلية الطب، أدركتُ أن أجمل ما فيها لم يكن المباني ولا الجداول ولا الأفلام، بل ذلك الإيمان الساذج بأن الوطن يمكن أن يكون عادلًا، وبأن الاختلاف لا يفسد الود، وبأن المستقبل—مهما كان صعبًا—سيكون لنا جميعًا.
ربما كانت كلية الطب آخر مكان عشتُ فيه السودان كما ينبغي، قبل أن يتعلّم الوطن كيف يأكل أبناءه واحدًا واحدًا دون أن يلتفت.
ومع ذلك، لم تذهب تلك التجربة هدرًا. فقد خرجتُ من كلية الطب إلى المهنة الطبية وأنا أحمل أكثر من طريقةً في النظر إلى الإنسان، وإحساسًا مبكّرًا بأن المرض لا يُفهم خارج سياقه الاجتماعي، ولا يُعالج بعيدًا عن الكرامة.
في العنابر، وأقسام الطوارئ، والعيادات البعيدة، ظلّت صور المرضى الذين قابلتهم طالبًا ترافقني. تعلّمتُ أن أُصغي قبل أن أُشخّص، وأن أرى الإنسان قبل أن أرى المرض، وأن أفهم الألم لا بوصفه عرضًا، بل حكايةً كاملةً لها جذور في الفقر، والخوف، والوحدة، والانكسار.
علّمتني أركان النقاش في الكلية أن أختلف باحترام، وأن أراجع يقيني قبل أن أُصدر حكمًا، فانعكس ذلك على ممارستي الطبية؛ صرتُ أكثر تواضعًا أمام تعقيد الجسد، وأكثر حذرًا من الادّعاء، وأكثر استعدادًا للاعتراف بأن الطب—مهما تقدّم—يظل علم احتمالات، لا علم يقين مطلق.
ومن القوافل الطبية تعلّمتُ أن الطبيب لا ينتمي إلى المدينة وحدها، بل إلى الهامش أيضًا. هناك، في القرى البعيدة، أدركتُ أن قيمة الطبيب لا تُقاس بعدد ما يعرف، بل بقدر ما يقترب من الناس، ويشبههم، ويشعر بثقل حياتهم اليومية.
حتى السينما، والقراءة، والمسرح، لم تكن ترفًا عابرًا؛ بل صقلت الحس الإنساني الذي يحتاجه الطبيب ليبقى إنسانًا. فقد عرفتُ باكرًا أن الطبيب الذي يفقد قدرته على التأثر، يفقد جزءًا من قدرته على الشفاء.
هكذا صارت المهنة امتدادًا لتلك السنوات، لا قطيعةً معها. وكلما وقفتُ أمام مريضٍ جديد، شعرتُ أنني ما زلتُ ذلك الطالب العائد كُدارى إلى الداخلية، يحمل سماعته في جيبه، وأسئلته في رأسه، ويقينًا صغيرًا في قلبه بأن الطب—في جوهره—فعلُ رحمة قبل أن يكون علمًا.
ومع ذلك، ما زلتُ أؤمن أن تلك التجربة لم تذهب هدرًا؛ فقد تركت فينا بذرة، كلما اشتدّ القحط، عادت لتذكّرنا بأن وطنًا آخر كان ممكنًا… ولا يزال ممكنًا.
بروف.د.ابشر حسن
استشارى الطب الباطن والمخ والاعصاب
مدير معهد الشول لتنمية القدرات البشرية
ورئيس مجموعة بروف داوود البحثية
أقرأ التالي
11 ديسمبر، 2025
تفكيك البنية السردية في رواية “السيدة الكبرى”: ديالكتيك الظاهر والمضمر- تمثلات الوعي وصراع الأنوات
10 ديسمبر، 2025
شكر وتقدير للدكتور بيشوي ماهر حنا دكتور الباطنه في مستشفى السلام التخصصي
9 ديسمبر، 2025
وزير الإسكان يهنئ وزير الشباب والرياضة لاختياره رئيسًا للجنة الحكومية الدولية للتربية البدنية والرياضة بمنظمة اليونسكو
8 ديسمبر، 2025
شركة تبارك للهندسة والمقاولات تشكر مسئولوا الإسكان وجهاز مدينة رشيد الجديدة
زر الذهاب إلى الأعلى