بقلم:-
الدكتور أبشر حسن “مدير معهد الشول لتنمية القدرات البشرية ورئيس مجموعة بروف داوود البحثية
“
لم تكن دار الرياضة أم درمان مجرد ملعب تُركل فيه كرة، بل كانت قطعة من روح المدينة، جزءًا من ذلك النَفَس الأم درماني الذي يجمع المتباعدين ويؤلِّف بين المختلفين.
هناك، في ذلك الفضاء المفتوح على الشمس والغبار والبهجة، كان السودان يظهر على حقيقته: غربًا يمشي إلى جوار الشمال، جنوبًا يعانق الشرق، وتذوب القبائل والمشيخات والأحزاب كما يذوب الملح في ماء النيل.
كانت الدار مسرحًا لكل شيء،مسرحًا للكرة، للضحك، للتحريض الجميل، للتعليقات الساخرة، ولحكايات لا تُروى إلا بلهجة أم درمان وذوقها الخاص.
ولأنها دار الرياضة، فقد سَكَنها الناس أكثر مما سكنوا بيوتهم، يأتونها ليشاهدوا المباريات، وليلتقوا أصدقاءهم، ولـ”يشمّوا الهوا”، ولينسوا تعب الحياة ساعة أو ساعتين.
أيامنا الأولى كانت أرضيتها ترابية، يُثير اللاعبون حولهم غبارًا يلمع مع أشعة المغيب، كأن الملعب سحابة صغيرة تتحرك مع حركة الكرة. ثم جاء زمن التنجيل والإضاءة الحديثة، لكن روحها لم تتغير،فالدار، مثل أم درمان نفسها، تُغيّر شكلها ولا تغيّر معدنها.
كانت مباريات الدرجة الثانية والثالثة أشبه بمباريات الممتاز من حيث الأداء والشغف.
ولم يكن مستغربًا أن يخرج من ملاعبها لاعبون صنعوا حضورهم في الفريق القومي وفي ذاكرة الرياضة السودانية.
كنا نشاهد – بمتعة لا تُنسى – فرقًا عريقة مثل:
أبو عنجة، حي الضباط، أبو سعد، بيت المال، التاج، أبو روف، المهدية، الشاطئ، الأحرار، الهاشماب، قلب الأسد، الانتصار، الناصر، أبو كدوك، الإخلاص، الصبابي، العامل، أبو حشيش، توتي، الحلفايا.
وكانت لقاءات حي الضباط وبيت المال، وحي الضباط وأبو سعد، حدثًا يُنتظر كالأعياد، خاصة حين يديرها الحكم عثمان “المسدس” بصرامته وروحه الساخرة في آن واحد.
وكم أضاء سماء الدار لاعبون جعلوا من الكرة فنًا، كبشور، علي حارن، أصلة، كلبو، عمر إنجليزي، حمدان، مجدي أبو سعد، الرشيد المهدية، علي أمين، غانا، قسيس، ود القاضي، كمال سيماوي، كلس، صلاح برلينا، أب إيديا، يسري، وليد أبو كدوك…
كان كل واحد منهم كتابًا مفتوحًا لحكاية مختلفة، وحرفنة خاصة، وموهبة تُحكى حتى بعد الاعتزال.
أم درمان لا تكتمل دون الفكاهة:
ومن قال إن الكرة فن وحده؟
الفكاهة أيضًا رياضة أم درمانية خالصة.
هناك في الركن اليمين من الدرجة، يجلس إبراهيم الجعفري، ممثلًا حتى وهو صامت.
والسر السُّفيّة المعروف بـ”الكرتلة” الذي يكفي حضوره ليُنبت الضحك.
وجاد كريم الذي كانت له القدرة على تحويل الحكاية إلى مشهدٍ كامل من مسرح الشارع.
ومن حولهم كمال أفرو، قطر، ود مرجان، خرستو صاحب “المرسون” الأسطوري الذي يبدأه بكل قوة ثم يسقط فجأة كأنه جزء من العرض.
طقوس لا تتكرر في أي ملعب آخر:
ولم يكن المشهد يكتمل إلا بظهور العم باجوري في الربع ساعة الأخيرة ممتطيًا صهوة جواده، مشهد يُعرف بـ”الملح”،حينها تُفتح الأبواب، ويخرج من ضاق صدره بهزيمة فريقه، ويدخل من بالخارج ليظفر بما تبقى من المباراة، وكأنها “شنطة” تُفتح مجانًا لمن يريد.
ولا ننسى العم قاسم الزبير، والحكم عَضَل، و”عَضَل بياع الموية”، الذين حفروا أسماءهم في ذاكرة المكان بطريقتهم الخاصة، جزءًا من تلك الكوميديا الاجتماعية التي لا تُشبه إلا أم درمان.
دار الرياضة لم تكن ملعبًا،كانت مدرسة للحياة،ودفترًا ضخمًا كُتب بالحناجر والضحكات والغبار،
وأسطورة أم درمانية تُحكى جيلاً بعد جيل.
وما زال صوت الجماهير، وصوت الصفارة، وصوت الضحك يحوم في فضائها حتى اليوم.
بروف ابشر حسين
أقرأ التالي
12 ديسمبر، 2025
دكتور أشرف حبيب يكتب ….استغاثة وطن ممزق
11 ديسمبر، 2025
تفكيك البنية السردية في رواية “السيدة الكبرى”: ديالكتيك الظاهر والمضمر- تمثلات الوعي وصراع الأنوات
10 ديسمبر، 2025
شكر وتقدير للدكتور بيشوي ماهر حنا دكتور الباطنه في مستشفى السلام التخصصي
9 ديسمبر، 2025
وزير الإسكان يهنئ وزير الشباب والرياضة لاختياره رئيسًا للجنة الحكومية الدولية للتربية البدنية والرياضة بمنظمة اليونسكو
زر الذهاب إلى الأعلى