الدكتور إبراهيم حامد يكتب:-…رواية “الغضب، الذي يبقى”: صرخة نسوية ضد قيود المجتمع

بقلم:-الدكتور إبراهيم حامد عبداللاه…
أستاذ الأدب الألمانى…رئيس قسم اللغة الألمانية-كلية الآداب-جامعة بنى سويف- عميد كلية الألسن سابقا

إن “ماريكه فالوكل”، المولودة عام 1983 في مدينة هالين بولاية سالزبورج النمساوية، تُعد واحدة من أبرز الأصوات الأدبية في الأدب الناطق بالألمانية المعاصر. بفضل أسلوبها الدقيق وقدرتها العميقة على التغلغل في النفس البشرية وجرأتها في مناقشة القضايا المجتمعية الحساسة، تمكنت من أن تحجز لنفسها مكانة متميزة في المشهد الأدبي. نشأت ماريكه في بيئة ريفية بسالزبورج، حيث أثرت الطبيعة المحيطة بها على طفولتها، وهو ما يظهر بشكل ضمني في الكثير من أعمالها الأدبية. كما أظهرت شغفاً مبكراً بالأدب واللغة، وبعد حصولها على شهادة الثانوية العامة، حيث اختارت دراسة علوم الاتصال مع مواصلة تطوير مهاراتها الكتابية، وقد عملت لسنوات كمدققة لغوية حرة، مما أتاح لها فرصة التعمق في عالم الأدب وصقل كتاباتها الخاصة. هذا التأثير يبدو جلياً في رواياتها التي تتميز بأسلوب لغوي محكم وبنية سردية متقنة.
ظهرت ماريكه لأول مرة في عالم الأدب عام 2018 بروايتها “أخضر داكن، لكنه تقريباً أسود”، التي تناولت قصة صداقة معقدة تطغى عليها العلاقات المتشابكة والخيانة والأسرار. حازت الرواية على إعجاب النقاد الذين أشادوا بقدرتها على تناول العلاقات الإنسانية بعمق وحساسية، مع الحفاظ على واقعية قاسية. في عام 2021، أصدرت روايتها الثانية “الضوء هنا أكثر إشراقاً”، التي سلطت الضوء على العنف النفسي واستغلال السلطة في العلاقات. نجحت الرواية في كشف آليات العلاقات السامة وتأثيرها على الأفراد والمجتمع المحيط. أما روايتها الثالثة “الغضب الذي يبقى”، التي صدرت عام 2023، فقد أثارت ضجة كبيرة حيث تناولت قضايا مثل الغضب الأنثوي والأمومة والضغوط المجتمعية التي تواجهها النساء. تعتبر الرواية صرخة ضد تهميش المرأة وإرهاقها في الحياة اليومية، ودعوة للتغيير في التصورات السائدة حول أدوار المرأة.
إن أعمال ماريكه تتميز بعمقها النفسي ونقدها الحاد للمعايير المجتمعية، وتتناول مواضيع تُعد من المحظورات الاجتماعية وتمنح صوتاً لأولئك الذين غالباً ما يتم تجاهلهم، مثل النساء في أوضاع هشة أو ضحايا العنف النفسي أو الأشخاص الذين يعيشون في ظل قيود مجتمعية خانقة. فأسلوبها يتميز بالوضوح والقوة، مع اهتمام كبير برسم الشخصيات بدقة تجعل القارئ يشعر بواقعية قصصها وتأثيرها العاطفي. إلى جانب نشاطها الأدبي، تعمل ماريكه ككاتبة مقالات تركز على القضايا النسوية والاجتماعية. كما أنها حاضرة بقوة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تشارك جمهورها بتفاصيل عملية الكتابة وتعبر عن آرائها بشأن التحديات التي تواجه الكاتبات وتشجع على تحقيق تمثيل أكبر للنساء في مجال الأدب.
لقيت روايات ماريكه إشادة كبيرة من النقاد وتُرجمت إلى عدة لغات، مما زاد من شهرتها خارج النطاق الناطق بالألمانية. حصلت على جوائز وترشيحات عديدة تعكس قيمتها الأدبية وتأثيرها الثقافي. تُعد “ماريكه فالوكل” نموذجاً للكاتبة التي تجمع بين الأدب الراقي والتفاعل مع القضايا الاجتماعية. من خلال كتاباتها، تدعو القارئ إلى التفكير في نفسه وفي المجتمع، مما يجعلها ليست مجرد روائية، بل صوتاً يعكس التغيرات والتحديات في العصر الحديث.

إن رواية “الغضب الذي يبقى” للكاتبة النمساوية “ماريكه فالفيكل” هي عمل أدبي مثير يعالج قضايا اجتماعية وثقافية بعمق وجرأة. تبدأ الرواية بحدث صادم يتمثل في انتحار هيلين، وهي أم وزوجة، أثناء عشاء عائلي. هذا الانتحار ليس مجرد مأساة شخصية بل يرمز إلى مقاومة صامتة للضغوط الاجتماعية التي تفرض على النساء. من خلال هذا الحدث، تأخذ الرواية القارئ في رحلة لفهم الغضب المكبوت داخل النساء وتأثيره عليهن وعلى المحيطين بهن.
الرواية تسلط الضوء على شخصيات متعددة تعكس تجارب نسائية مختلفة. هيلين تمثل المرأة المحاصرة في أدوارها التقليدية كأم وزوجة، والتي تجد نفسها عاجزة عن تحمل الضغوط المجتمعية التي تؤدي بها إلى قرارها المدمر. فبطلة الرواية “سارة”، صديقة هيلين المقربة، تتولى رعاية أطفالها بعد وفاتها، مما يدفعها إلى مواجهة تساؤلات عن هويتها ودورها في نظام أبوي قاسٍ. وشخصية “لولا”، ابنة هيلين المراهقة، تمثل الجيل الجديد من النساء اللواتي يستخدمن الغضب كوسيلة للمقاومة، لكنها تسلك أحيانًا طرقًا متطرفة وعنيفة، مما يثير تساؤلات عميقة حول أخلاقيات التمرد وحدوده.
إن موضوع الغضب يحتل مركزًا رئيسيًا في الرواية، حيث يُعرض كعاطفة إنسانية طبيعية يتم تجاهلها أو قمعها لدى النساء، وتقدم الكاتبة موضوع الغضب كقوة مزدوجة، فهو من جهة قد يكون مدمرًا كما يظهر في شخصية “لولا”، ومن جهة أخرى وسيلة للتحرر وكسر القيود الاجتماعية المفروضة. يعكس الغضب صراعًا طويل الأمد للنساء من أجل تحقيق التوازن بين أدوارهن التقليدية ورغباتهن في الاستقلالية والحرية.
تميزت الكاتبة بأسلوبها السردي القوي والمباشر، مع استخدام لغة تعزز الرسالة النسوية العميقة التي تحملها الرواية. اختارت الكاتبة لغة حيادية للجنسين لتعكس رؤيتها للمساواة، بينما يمنح التبديل بين وجهات النظر المختلفة في الرواية القارئ فهمًا عميقًا للمشاعر الداخلية لكل شخصية، مما يجعل النص متصلًا على مستوى شخصي.
أثارت الرواية نقاشات واسعة بين النقاد والقراء. أشاد كثيرون بجرأتها في تناول موضوعات مثل الغضب النسوي والتمرد على النظام الأبوي، واعتبروها صرخة تمثل النساء الباحثات عن الحرية والعدالة. من جهة أخرى، تعرضت بعض مشاهد العنف التي تميز تمرد لولا لانتقادات اعتبرها البعض مبالغًا فيها أو استفزازية، في حين رأى آخرون أن هذه المشاهد ضرورية لفهم تعقيد الصراعات التي تواجهها الشخصيات.
الرواية ليست مجرد عمل أدبي بل هي دعوة لفتح النقاش حول قضايا نسائية معاصرة. الكاتبة تُظهر بوضوح كيف يمكن للضغوط الاجتماعية أن تؤدي إلى الانفجار، وأن المقاومة ليست دائمًا سلمية أو مثالية. تقدم الرواية رؤية عميقة حول كيفية استخدام الغضب كأداة للتغيير الاجتماعي والسياسي إذا ما تم توجيهه بوعي.
“الغضب الذي يبقى” هو عمل أدبي جريء وملهم يدعو إلى التفكير والتغيير. من خلال شخصياته وأساليبه السردية العميقة، يعكس هذا النص تحديات النساء في مواجهة القيود الاجتماعية، ويُعد شهادة مهمة على النضال النسوي في العالم المعاصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى