بقلم الدكتور:- إبراهيم حامد عبداللاه
أستاذ الأدب الألمانى…-عميد كلية الألسن
…رئيس قسم اللغة الألمانية كلية الآداب..
جامعة بنى سويف
مئوية الرحلة الجوية التاريخية إلى إفريقيا: كيف غيّرت طائرة مائية صغيرة فهمنا للقارة والسماء معاً
في مثل هذا الشهر قبل مئة عام، أقلع المغامر والطيّار السويسري فالتر ميتلهولزر بطائرته المائية من أوروبا باتجاه الجنوب، في رحلة استكشافية فريدة إلى القارة الإفريقية. لم يكن يدرك أن مغامرته تلك ستصبح علامة فارقة في تاريخ الطيران والاستكشاف العلمي، وأنها ستشكّل واحدة من أقدم وأهم الوثائق البصرية للطبيعة الإفريقية والحياة البشرية فيها. اليوم، ونحن نحتفل بمئوية هذه الرحلة، نجد أنفسنا أمام إرث علمي وثقافي غني يفتح الباب للنقاش حول العلاقة بين الطيران، العلم، والتوثيق الإنساني.
مغامر في سماء غير مكتشفة
ولد فالتر ميتلهولزر عام 1894 في سويسرا، وتعلّق مبكرًا بالطيران في وقت كان فيه التحليق مغامرة محفوفة بالمخاطر. مع نهاية الحرب العالمية الأولى، تحوّل الطيران من أداة عسكرية إلى وسيلة استكشاف وعلم، ووجد ميتلهولزر في ذلك فرصة لتحقيق حلمه: الطيران إلى القارة الإفريقية التي كانت لا تزال بالنسبة للأوروبيين فضاءً مجهولاً مليئاً بالأسرار.
عام 1925، بدأ ميتلهولزر التخطيط لرحلة جوية طويلة باستخدام طائرة مائية من طراز Junkers F 13، مجهزة بكاميرات تصوير فوتوغرافي جوي. هدفه لم يكن المغامرة الشخصية فحسب، بل توثيق جغرافي وديموغرافي دقيق لخط سير الرحلة، ورسم صورة شاملة للقارة من الجو. هذا الطموح كان ثورياً في وقت لم يكن الطيران المدني قد ترسّخ بعد، ولم تكن الخرائط الجوية قد أُنجزت على نحو كامل.
الطائرة المائية: معجزة التكنولوجيا آنذاك
كانت الطائرة المائية التي استخدمها ميتلهولزر رمزاً للتقدّم التكنولوجي في عشرينيات القرن العشرين. بفضل قدرتها على الإقلاع والهبوط على المسطحات المائية، حيث أمكن له أن يختار مسارات جديدة ويصل إلى مناطق لم يكن الوصول إليها ممكناً بوسائل النقل التقليدية. زوّدت الطائرة بكاميرات ضخمة نسبياً لتصوير المشاهد من الجو بدقة، وأجهزة ملاحية بدائية مقارنة بعصرنا الحالي، لكنها كانت تمثل قمة التقنية المتاحة آنذاك.

لقد كان كل تحليق في تلك الرحلة اختباراً لشجاعة الطيّار ولقدرة الماكينة على الصمود أمام الرياح الحارّة، العواصف الاستوائية، والظروف الجوية غير المتوقعة. وما يثير الإعجاب أنّ ميتلهولزر لم يكن يطير فقط؛ بل كان أيضاً يلتقط الصور ويكتب الملاحظات التي ستتحوّل لاحقاً إلى كتابه الشهير رحلة إفريقيا.
البعد العلمي: من الجو إلى الجغرافيا
ما ميّز رحلة ميتلهولزر عن غيرها من المغامرات في ذلك الزمن هو بعدها العلمي الواضح. لقد قدّم صوراً جوية شملت مناطق في السودان، أوغندا، كينيا، وتنزانيا، وهي اليوم تمثل سجلاً تاريخياً فريداً يُظهر ملامح القارة قبل قرن. هذه الصور ساهمت في تحديث الخرائط الأوروبية، وأتاحت للعلماء دراسة التضاريس والأنهار والمستوطنات البشرية بدقة غير مسبوقة.
إن علماء الأنثروبولوجيا بدورهم وجدوا في هذه الصور مادة بحثية قيّمة لفهم أنماط الاستيطان البشري في شرق إفريقيا، كما استُخدمت الصور في دراسة أنظمة الزراعة والموارد المائية. بكلمات أخرى، تحولت رحلة استكشافية فردية إلى مشروع علمي متكامل استفاد منه الجغرافيون، المؤرخون، وعلماء البيئة.
مغامرة تحمل بُعداً إنسانياً
بعيداً عن الجانب التقني، حملت رحلة ميتلهولزر بُعداً إنسانياً عميقاً. فقد التقى خلال جولاته بالمجتمعات المحلية، وصوّر الحياة اليومية للسكان الأصليين بعين توثيقية دقيقة، وإن كانت عدسته متأثرة بروح العصر الاستعماري. هذه الصور اليوم مصدر للنقاش الأكاديمي حول كيفية تمثيل “الآخر” في بدايات التصوير الفوتوغرافي.
إن بعض الباحثين يرون في مشروع ميتلهولزر محاولة لفرض “نظرة استعمارية” من السماء، فيما يرى آخرون أنه كان عملاً ريادياً ساهم في تعريف العالم بالقارة الإفريقية بشكل أوسع. بغض النظر عن الموقف، لا يمكن إنكار أنّ توثيق هذه اللحظة التاريخية أسهم في حفظ ذاكرة بصرية لثقافات وعادات بعضها تغيّر أو اختفى مع مرور الزمن.
التحديات التقنية واللوجستية
إن الرحلة لم تكن نزهة. فقد واجه الطيّار صعوبات ميكانيكية متكررة، ونقصاً في الوقود في بعض المحطات، ومخاطر حقيقية تتعلق بالهبوط في مناطق مجهولة. كل إصلاح كان مغامرة بحد ذاته. ومع ذلك، نجح ميتلهولزر في إكمال الرحلة والعودة إلى أوروبا، حاملاً آلاف الصور وسجلاً مكتوباً لتفاصيل كل محطة.
واليوم، تعكس هذه التجربة المبكرة التداخل بين الشجاعة الفردية والابتكار التكنولوجي. ففي عصر الطائرات المسيرة وصور الأقمار الصناعية، قد يبدو هذا الجهد بدائياً، لكنه كان حجر الأساس لفكرة أن الطيران ليس فقط وسيلة للنقل، بل أيضاً أداة معرفية لرسم صورة علمية للعالم.
أثر الرحلة على مستقبل الطيران المدني
لم يمض وقت طويل حتى تحوّل الطيران إلى وسيلة رئيسية للتنقل بين القارات، وأسهمت رحلات مثل رحلة ميتلهولزر في إقناع الجمهور والحكومات بجدوى الاستثمار في البنية التحتية للطيران. فقد استعانت شركات الطيران الناشئة في أوروبا بتجاربه في تصميم مسارات آمنة ورحلات استطلاعية لاحقة.
كما أسهمت الرحلة في فتح الباب أمام تطوير الطيران التجاري إلى إفريقيا، ما ساعد في تعزيز التبادل الاقتصادي والثقافي بين القارة وبقية العالم. يمكن القول إن ميتلهولزر لم يكن فقط رائداً في الاستكشاف، بل أيضاً مساهماً غير مباشر في نشوء شبكات الطيران الدولية.
الإرث البصري والثقافي
اليوم، تُعرض صور ميتلهولزر في المتاحف والأرشيفات الوطنية السويسرية كأعمال فنية وعلمية في آن واحد. إن الجامعات تعتمد عليها كمصادر أولية لدراسة التغيرات البيئية في إفريقيا على مدى قرن. فبفضل هذه الصور، يمكن مقارنة الغابات والأنهار والمناطق الزراعية كما كانت عام 1925 بما هي عليه اليوم، ورصد آثار التوسع العمراني والتغير المناخي.
أما على الصعيد الثقافي، فقد ألهمت مغامرته كتّاباً ورسامين وصناع أفلام لتناول موضوع الطيران والاستكشاف. يمكن القول إن رحلة ميتلهولزر وضعت حجر الأساس لأدب الرحلات الجوي الذي سيزدهر لاحقاً مع كتابات سانت إكزوبيري وغيره من طياري الحقبة الذهبية للطيران.
دروس للمستقبل
إن مئوية هذه الرحلة ليست مناسبة للاحتفال فحسب، بل فرصة للتأمل في معنى الاستكشاف العلمي في عصرنا. فاليوم، لم تعد الحاجة ملحّة لطائرات مائية لعبور القارات، لكن الحاجة إلى توثيق شامل ودقيق لكوكبنا لم تتضاءل. إن الصور الجوية والأقمار الصناعية أصبحت أدوات روتينية، لكن روح المغامرة التي دفعت ميتلهولزر للتحليق جنوباً لا تزال مطلوبة لإلهام أجيال جديدة من الباحثين والمستكشفين.
لقد بيّنت هذه الرحلة أنّ التكنولوجيا وحدها لا تكفي؛ حيث يجب أن تُسخّر في خدمة المعرفة الإنسانية. ميتلهولزر لم يكن يسعى وراء الشهرة بقدر ما كان يسعى وراء الفهم — فهم الجغرافيا، فهم الثقافات، وفهم حدود الإمكانيات البشرية.
مئوية تُعيد تعريف الطيران كأداة معرفة
بعد مئة عام، لا تزال رحلة ميتلهولزر تشكّل لحظة مفصلية في تاريخ الطيران والاستكشاف. إنها تذكير بأن السماء ليست فقط مجالاً للطيران، بل فضاءً لإعادة اكتشاف العالم من منظور جديد. وفي زمن يواجه فيه العالم تحديات بيئية كبرى، حيث تصبح الصور الجوية الأولى التي التقطها ميتلهولزر وثائق مرجعية تساعدنا على فهم التحولات التي مرّت بها القارة الإفريقية.
ربما لم يكن ميتلهولزر يتوقع أن يُحتفل بذكراه بعد قرن من الزمان، لكن أثره العميق على العلم والثقافة يجعل من مئوية رحلته فرصة لإعادة قراءة التاريخ العلمي للطيران، وللاحتفاء بشجاعة ذلك الطيّار الذي ربط بين السماء والأرض بعدسة كاميرا وطائرة مائية صغيرة.
أقرأ التالي
16 سبتمبر، 2025
منى المنصوري تخطف الأنظار بعرض أزياء مبهر في عروس الخليج 2025| صور
16 سبتمبر، 2025
كامل الوزير يترأس الاجتماع الثلاثين للمجموعة الوزارية للتنمية الصناعية.. تفاصيل
12 سبتمبر، 2025
وانقلب السحر على أبناء الساحر.. تطورات جديدة في أزمة بوسي شلبي مع أبناء محمود عبد العزيز
10 سبتمبر، 2025
لماذا لا تكون أفريقيا؟
زر الذهاب إلى الأعلى