بقلم الدكتور:- إبراهيم حامد عبداللاه
أستاذ الأدب الألمانى-عميد كلية الألسن
رئيس قسم اللغة الألمانية كلية الآداب..
جامعة بنى سويف

في زمن تتنافس فيه الروايات على جذب القارئ بالإثارة أو الغرائبية أو الحنين العاطفي، تأتي رواية “هاينرش المصري” للكاتب السويسري ماركوس فيرنر كعمل أدبي راقٍ ومتعدد الطبقات، لا يروي قصة فحسب، بل يطرح أسئلة وجودية حول الأصل والانتماء، ويختبر حدود المعرفة، ويتأمل العلاقة بين الماضي والحاضر، وبين أوروبا والعالم العربي. فالرواية ليست مجرد سيرة لجَد مصري منسي، بل استقصاء ذاتي يشبه حفرًا أثريًا في ذاكرة العائلة، لا لاستخلاص الحقيقة المطلقة، بل لاستشعار حضور الماضي وغموضه الملهم.
تبدأ رحلة الراوي، نسخة روائية عن الكاتب نفسه، من أسطورة عائلية عن الجَد الأكبر هاينرش بلونتشلي، الذي شارك في بناء قناة السويس. هذه الأسطورة، مثل كل الأساطير العائلية، تحمل رغبة في التماهي مع النجاح والبطولة، وتحول الجَد إلى رمز للطموح الأوروبي الذي يضفي شرعية على حضور العائلة في التاريخ الحديث. لكن عند أول احتكاك بالواقع، تتهاوى الأسطورة كقصر رملي، إذ يكتشف الراوي في مكتبات سويسرا وأرشيفات مصر أن المواد المتاحة عن حياة هاينرش قليلة: ورقة واحدة تذكر أنه كان مديرًا للمحال الحكومية، وبعض الذكريات الشفوية المتناقضة من جدته.
هنا يبدأ الفصل الأكثر إثارة وذكاء في الرواية، إذ يحوّل فيرنر الفراغ المعرفي إلى وقود للخيال الأدبي. فالرواية ليست سيرة تاريخية، بل بناء شخصية أدبية، تستخدم الحقيقة كنقطة انطلاق لتأمل الطبيعة البشرية والعلاقة المعقدة بين الغرب وأفريقيا.
تتشابك الرواية عبر سردين متقاطعين: سرد حاضر يتبع خطوات الراوي في القاهرة المعاصرة، وسرد ماضٍ يعيد بناء حياة هاينرش في سويسرا ومصر في القرن التاسع عشر. في هذه الثنائية الزمنية، يصوغ فيرنر تناقضًا وجوديًا. الراوي السويسري، المنتمي إلى ثقافة النظام والشفافية البيروقراطية، يجد نفسه في كابوس من البيروقراطية المصرية غير العقلانية، في قلعة من الورق لا يمكن اختراقها. في أرشيف مصر الوطني بدار الكتاب، يتحول البحث عن الحقيقة إلى مسرحية سوداء؛ يطلب الحارس ورقة، ثم ينقله زميل إلى غرفة أخرى، ويتكرر السؤال ذاته دون جواب. هذا المشهد، الذي يصوره فيرنر بحس فكاهي لاذع، يكشف عن منطق مختلف للعالم، حيث العلاقة هي التي تصنع الحقيقة، وليس الوثيقة.
من خلال هذا الصراع مع الآخر، يسقط الراوي أوروبا على مصر. فمحاولته قياس حياة هاينرش بالمعايير الأوروبية الحديثة تبوء بالفشل، إذ يكتشف أن جده هاينرش لم يكن بطلاً عظيماً، بل رجلاً عاديًا وقع في دوامة التاريخ. لقد فر هاينرش إلى مصر كمفلس هارب من ديونه بعد فشل مشروعه التجاري في سويسرا، وليس كمستكشف أو مصلح. هذه النظرة المتواضعة للجَد، التي تصوره إنسانًا ضعيفًا، تمثل تمرّدًا على خطابات الاستشراق الكلاسيكية التي صوّرت الأوروبي في الشرق كمنقذ.
رغم أن مصر ليست محور الرواية، إلا أن القاهرة تظهر كشخصية رئيسية لا يمكن تجاهلها. إن فيرنر لا يكتفي بوصف الأهرامات أو النيل كمناظر طبيعية، بل يغوص في نبض المدينة الحقيقي: زحام شارع طلعت حرب، ضجيج المطاعم الشعبية مثل فلفلة، روائح البخور والقلي من الأزقة الضيقة. يصف المدينة كقلب نابض، مليء بالألوان والروائح والأصوات، لدرجة أن القارئ يشعر أنه يسير في متاهاتها.
في لحظة مركزة، يطرح فيرنر مفارقة ثقافية تتعلق بالتصوير عند قناة السويس: الأوروبي يرى القناة معلماً سياحيًا، فيسرع لالتقاط الصورة كتذكار بريء، أما السائق المصري، فيرى في الحركة تهديدًا وجوديًا، يفتح أبواب التحقيق والمشاكل التي قد تدمر حياته. تظهر هذه المفارقة الهاوية بين عالمين: اللعبة ذات الطابع البسيط للاعب واحد، قضية حياة أو موت للآخر، مؤكدة أن التاريخ لا يزال حاضرًا في الوعي اليومي ويشكل منظور الفرد إلى أبسط الأشياء.
يتميز أسلوب الكاتب ماركوس فيرنر بلغة خالية من الزخارف ومستقلة عن الصور النمطية. في رواية “هاينرش المصري”، يستخدم فيرنر هذه اللغة لبناء جسر بين الزمنين، متنقلاً بين السرد المباشر والتأمل الفلسفي، وبين السخرية السوداء وعذوبة الحنين. يختلط الواقع بالخيال عندما يتخيل الراوي حوارًا مع جدّه الصغير هاينرش في فناء كنيسة أوردورف، أو عندما يخبئ هاينرش كنزه من العملات الرومانية خلف حظيرة الدجاج.
هذا التداخل ليس هروبًا من الحقيقة، بل اعتراف بحدودها. فالراوي يدرك أن كل ما يكتبه عن هاينرش هو تخمين، لكنه السبيل لاستعادة الحميمية المفقودة مع الماضي. الذاكرة هنا ليست أرشيفًا، بل حوار مستمر، يقابل لعنة العالم بلمسات رقيقة من الحب والتفهّم.
في الرواية يستخدم فيرنر تقنية ذكية لتعزيز شعور الفراغ والبحث: دمج نصوص واقعية مثل صفحات الكتاب الأزرق الذي تركته الجدة، نص وثيقة من أرشيف الكنيسة، وأسماء في قوائم الطلاب. هذه الشظايا تمنح الرواية مصداقية وتجعل القارئ شريكًا في محاولة تجميع الأحجية.
إن الرواية هي قصة غربة بمعناها الأوسع. هاينرش كان غريبًا في سويسرا لأنه فشل في الامتثال لمعايير نجاحها، وغريبًا في مصر لأنه أوروبي لا يفهم عمق الحضارة. والراوي يشعر بغربة مزدوجة: عن جذوره المصرية، وعن ذاته الأوروبية. بحثه عن هاينرش هو بحث عن ذاته وفهم ما جعله على ما هو عليه.
الرواية لا تقدّم حلولًا سهلة، فهاينرش يظل غامضًا، والراوي لا يعثر على حقيقة نهائية. لكن في هذا الإخفاق يكمن نجاحها الأدبي، إذ يعلمنا فيرنر أن أهمية الماضي ليست في الحقائق التي نكتشفها، بل في الأسئلة التي يطرحها علينا، وفي الحوارات التي يثيرها داخلنا، نداء للعيش في حالة شك إنساني، لأن الجواب المطلق يقتل الحكاية، بينما السؤال يبقيها حيّة ومتدفقة كنهر النيل.
تستعرض الرواية سيرة هاينرش بلونتشلي، الجَد الأكبر للكاتب ماركوس فيرنر، الذي غادر سويسرا في منتصف القرن التاسع عشر ليستقر في مصر، حيث عاش نصف قرن. يبدأ الكاتب رحلته بحثًا عن آثار هذا الجَد المنسية، متأملًا الصلة بينه وبين رجل عاش في زمن مختلف، وسط حضارة لا تشبه حضارته.
ما يبدأ كبحث أثري عن شخصية عائلية، يتحوّل تدريجيًا إلى رحلة وجودية، تتنقل بين ذاكرة العائلة وتاريخ مصر الحديث. هاينرش الذي سمع عنه الكاتب كشخصية أسطورية، شارك في بناء قناة السويس، يتبين أنه رجل عادي، وربما فاشل، هرب من ديون ثقيلة ليجد في مصر ملاذًا جديدًا.
لا تكتفي الرواية بسرد الوقائع، بل تغوص في العلاقة الملتبسة بين الأوروبي والمصري، وبين الحداثة والاستشراق، وبين الأسطورة والحقيقة. بينما يبحث الكاتب عن وثائق تثبت مكانة جَدّه، يصطدم بجدار من البيروقراطية واللامبالاة، بل وحتى السخرية الصامتة من هذا الأوروبي الذي يظن أن التاريخ الرسمي سيسجل حضور رجل عادي كهاينرش.
تقدّم الرواية صورة حية لمصر في عهد الخديوي إسماعيل، مجتمع يبحث عن هويته بين الإرث العثماني والطموحات الحديثة وثقل الحضور الأوروبي. إن الإنسان المصري لا يظهر كرمز للعظمة المطلقة، بل كمرجع ثقافي تُبنى عليه أساطير الحاضر. هاينرش المتواضع يُلبَس في الذاكرة العائلية ثوب البطل الذي ساهم في صناعة الحداثة المصرية، بينما الحقيقة تكاد تكون معاكسة.
إن اللقاء الحقيقي ليس بين الكاتب وشبح جَدّه، بل بين الكاتب ومصر ذاتها. كل محاولة لاسترجاع الماضي تصطدم بواقع مختلف، فالسائق المصري يفزع من مجرد فكرة تصوير القناة، والموظف يتعامل مع الطلب كمهمة روتينية بلا معنى، والأرشيف مهمل. هذه اللحظات تكشف فجوة عميقة بين النظرة الأوروبية لمصر كمتحف مفتوح، والواقع المصري الذي يعيش لحظته دون اكتراث.
إن الرواية تطرح سؤالًا جوهريًا: هل نبحث عن الحقيقة، أم عن ما يبرر وجودنا؟ هاينرش ليس مجرد جَد مفقود، بل مرآة ينظر الكاتب من خلالها إلى ذاته، متسائلًا عن جذوره، ومعنى الانتماء، وإمكانية التواصل بين عالمين يفصلهما أكثر من بحر أو زمن. إن الجمال هنا يكمن في الغموض، فالبحث ذاته، بكل إخفاقاته ودهشاته، يمنح الحياة معناها.
أقرأ التالي
30 نوفمبر، 2025
شكر وتقدير للاستاذ رضا يسين مدير العيادات بمستشفى البدر التخصصي
30 نوفمبر، 2025
ختام الجولة الرابعة من بطولة العالم لسباقات الزوارق السريعة الفورمولا1 بجدة وفيكتوري الإماراتي يخطف اللقب
30 نوفمبر، 2025
المقاولون العرب تحصد جائزتين دوليتين عن مشروعي المونوريل وسد جوليوس نيريري بتنزانيا
28 نوفمبر، 2025
شكر وتقدير للنقيب محمود إيهاب مدير شرطة مرافق حي اول مدينة السلام
زر الذهاب إلى الأعلى